فصل: كتاب ذم الغرور

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **


كتاب ذم الغرور

وهو الكتاب العاشر من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي بيده مقاليد الأمور وبقدرته مفاتيح الخيرات والشرور مخرج أوليائه من الظلمات إلى النور ومورد أعدائه ورطات الغرور والصلاة على محمد مخرج الخلائق من الديجور وعلى آله وأصحابه الذين لم تغرهم الحياة الدنيا ولم يغرهم بالله الغرور صلاة تتوالى على ممر الدهور ومكر الساعات والشهور‏.‏

أما بعد‏:‏ فمفتاح السعادة التيقظ والفطنة ومنبع الشقاوة الغرور والغفلة فلا نعمة لله على عباده أعظم من الإيمان والمعرفة ولا وسيلة سوى انشراح الصدر بنور البصيرة ولا نقمة أعظم من الكفر والمعصية ولا داعي إليهما سوى عمى القلب بظلمة الجهالة فالأكياس وأرباب البصائر قلوبهم ‏"‏ كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور ‏"‏ والمغترون قلوبهم ‏"‏ كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور ‏"‏ فالأكياس هم الذين أراد الله أن يهديهم فشرح صدورهم للإسلام والهدى والمغترون هم الذين أراد الله أن يضلهم فجعل صدرهم ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء‏.‏

والمغرور هو الذي لم تنفتح بصيرته ليكون بهداية نفسه كفيلاً وبقي في العمى فاتخذ الهوى قائداً والشيطان دليلاً ‏"‏ ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ‏"‏ وإذا عرف أن الغرور هو أم الشقاوات ومنبع المهلكات فلا بد من شرح مداخله ومجاريه وتفصيل ما يكثر من وقوع الغرور فيه ليحذره المريد بعد معرفته فيتقيه فالموفق من العباد من عرف مداخل الآفات والفساد فأخذ منها حذره وبنى على الحزم والبصيرة أمره‏.‏

ونحن نشرح أجناس مجاري الغرور وأصناف المغترين من القضاة والعلماء والصالحين الذين اغتروا بمبادئ الأمور الجميلة ظواهرها القبيحة سرائرها ونشير إلى وجه اغترارهم بها وغفلتهم عنها فإن ذلك وإن كان أكثر مما يحصى ولكن يمكن التنبيه على أمثلة تغني عن الاستقصاء وفرق المغرين كثيرة ولكن يجمعهم أربعة أصناف الصنف الأول من العلماء الصنف الثاني من العباد الصنف الثالث من المتصوفة الصنف الرابع من أرباب الأموال‏.‏

والمغتر من كل صنف فرق كثيرة وجهات غرورهم مختلفة فمنهم من رأى المنكر معروفاً كالذي يتخذ المسجد ويزخرفها من المال الحرام ومنهم من لم يميز بين ما يسعى فيه لنفسه وبين ما يسعى فيه لله تعالى كالواعظ الذي غرضه القبول والجاه ومنهم من يترك الأهم ويشتغل بغيره ومنهم من يترك الفرض ويشتغل بالنافلة ومنهم من يترك اللباب ويشتغل بالقشر كالذي يكون همه في الصلاة مقصوراً على تصحيح مخارج الحروف إلى غير ذلك من مداخل لا تتضح إلا بتفصيل الفرق وضرب الأمثلة‏.‏

ولنبدأ أولاً بذكر غرور العلماء ولكن بعد بيان ذم الغرور وبيان حقيقته وحده‏.‏

بيان ذم الغرور وحقيقته وأمثلته

اعلم أن قوله تعالى ‏"‏ فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربضتم وارتبتم وغرتكم الأماني ‏"‏ الآية‏.‏

كاف في ذم الغرور وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يغبنون سهر الحمقى واجتهادهم ولمثقال ذرة من صاحب تقوى ويقين أفضل من ملئ الأرض من المغترين وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله وكل ما ورد في فضل العلم وذم الجهل فهو دليل على ذم الغرور لأن الغرور عبارة عن بعض أنواع الجهل إذ الجهل هو أن يعتقد الشيء ويراه على خلاف ما هو به والغرور هو جهل إلا أن لك جهل ليس بغرور بل يستدعي الغرور‏:‏ مغروراً فيه مخصوصاً ومغروراً به وهو الذي يغره‏.‏

فمهما كان المجهدل المعتقد شيئاً يوافق الهوى وكان السبب الموجب للجهل شبهة ومخيلة فاسدة يظن أنها دليل ولا تكون دليلاً سمي الجهل الحاصل به غروراً‏.‏

فالغرور هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى ويميل إليه الطبع عن شبهة وخدعة من الشيطان فمن اعتقد أنه على خير إما في العاجل أو في الآجل عن شبهة فاسدة فهو مغرور وأكثر الناس يظنون بأنفسهم الخير وهم مخطئون فيه فأكثر الناس إذن مغرورون وإن اختلفت أصناف غرورهم واختلفت درجاتهم حتى كان غرور بعضهم أظهر وأشد من بعض وأظهرها وأشدها غرور الكفار وغرور العصاة والفساق فنورد لهما أمثلة لحقيقة الغرور‏.‏

المثال الأول غرور الكفار فمنهم من غرته الحياة الدنيا ومنهم من غره بالله الغرور أما الذين غرتهم الحياة الدنيا‏:‏ فهم الذين قالوا‏:‏ النقد خير من النسيئة والدنيا نقد والآخرة نيسئة فهي إذن خير فلا بد من إيثارها وقالوا‏:‏ اليقين خير من الشك ولذات الدنيا يقين ولذات الآخرة شك فلا تترك اليقين بالشك‏.‏

وهذه أقيسة فاسدة تشبه قياس إبليس حيث قال ‏"‏ أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ‏"‏ وإلى هؤلاء الإشارة بقوله تعالى ‏"‏ أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ‏"‏ وعلاج هذا الغرور إما بتصديق الإيمان وإما بالبرهان أما التصديق بمجرد الإيمان فهو أن يصدق الله تعالى في قوله ‏"‏ ما عندكم ينفد وما عند الله باق ‏"‏ وفي قوله عز وجل ‏"‏ وما عند الله خير ‏"‏ وقوله ‏"‏ والآخرة خير وأبقى ‏"‏ وقوله ‏"‏ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ‏"‏ وقوله ‏"‏ فلا تغرنكم الحياة الدنيا ‏"‏ وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك طوائف من الكفار فقلدوه وصدقوه وآمنوا به ولم يطالبوه بالبرهان ومنهم من قال‏:‏ نشدتك الله أبعثك الله رسولاً فكان يقول ‏"‏ نعم ‏"‏ فيصدق وهذا إيمان العامة وهو يخرج من الغرور وينزل هذا منزله تصديق الصبي والده في أن حضور المكتب خير من حضور الملعب مع أنه لا يدري وجه كونه خيراً‏.‏

وأما المعرفة بالبيان والبرهان فهو أن يعرف وجه فساد هذا القياس الذي نظمه في قلبه الشيطان فإن كل مغرور فلغروره سبب وذلك السبب هو دليل وكل دليل فهو نوع قياس يقع في النفس ويورث السكون إليه وإن كان صاحبه لا يشعر به ولا يقدر على نظمه بألفاظ العلماء‏.‏

فالقياس الذي نظمه الشيطان فيه أصلان ‏"‏ أحدهما ‏"‏ أن الدنيا نقد والآخرة نسيئة وهذا صحيح ‏"‏ والآخر ‏"‏ قوله‏:‏ إن النقاد خير من النسيئة وهذا محل التلبيس فليس الأمر كذلك بل إن كان النقد مثل النسيئة في المقدار والمقصود فهو خير وإن كان أقل منها فالنسيئة خير فإن الكافر المغرور يبذل في تجارته درهماً ليأخذ عشرة نسيئة ولا يقول النقد خير من النسيئة فلا أتركه وإذا حذره الطبيب الفواكه ولذائذ الأطعمة ترك ذلك في الحال خوفاً من ألم المرض في المستقبل فقد ترك النقد ورضي بالنسيئة‏.‏

والتجار كلهم يركبون البحار ويتعبون في الأسفار نقداً لأجل الراحة والربح نسيئة فإن كان عشرة في ثاني الحال خيراً من واحد في الحال فأنسب لذة الدنيا من حيث مدتها إلى مدة الآخرة فإن أقصى عمر الإنسان مائة سنة وليس هو عشر عشير من جزء ألف ألف جزء من الآخرة‏.‏

فكأنه ترك واحداً ليأخذ ألف ألف بل ليأخذ ما لا نهاية له ولا حد وإن نظر من حيث النوع رأى لذات الدنيا مكدرة مشوبة بأنواع المنغصات ولذات الآخرة صافية غير مكدرة فإذن قد غلط في قوله‏:‏ النقد خير من النسيئة فهذا غرور منشؤه قبول لفظ عام مشهور أطلق وأريد به خاص فغفل به المغرور عن خصوص معناه‏.‏

فإن من قال‏:‏ النقد خير من النسيئة أراد به خيراً من نسيئة هي مثله وإن لم يصرح به‏.‏

وعند هذا يفزع الشيطان إلى القياس الآخر وهو‏:‏ أن اليقين خير من الشك إذاً الآخرة شك وهذا القياس أكثر فساداً من الأول لأن كلا أصليه باطل إذ اليقين خير من الشك إذا كان مثله وإلا فالتاجر في تعبه على يقين وربحه على شك ‏"‏ والمتفقه في جهاده على يقين وفي إدراكه رتبة العلم على شك والصياد في تردد في المقتنص على يقين وفي الظفر بالصيد على شك وكذا الحزم دأب العقلاء بالاتفاق وكل ذلك ترك اليقين بالشك ولكن التاجر يقول‏:‏ إن لم أتجر بقيت جائعاً وعظم ضرري وإن اتجرت كان تعبي قليلاً وربحي كثيراً وكذلك المريض يشرب الدواء البشع الكريه وهو من الشفاء على شك ومن مرارة الدواء على يقين ولكن يقول‏:‏ ضرر مرارة الدواء قليل بالإضافة إلى ما أخافه من المرض والموت فكذلك من شك في الآخرة فواجب عليه بحكم الحزم أن يقول‏:‏ أيام الصبر قلائل وهو منتهى العمر بالإضافة إلى ما يقال من أمر الآخرة فإن كان ما قيل فيه كذباً فما يفوتني إلا التنعم أيام حياتي وقد كنت في العدم من الأزل إلى الآن لا أتنعم فأحسب أني بقيت في العدم‏.‏

وإن كان ما قيل صدقاً فأبقى في النار أبد الآباد وهذا لا يطاق‏.‏

ولهذا قال علي كرم الله وجهه لبعض الملحدين‏:‏ إن كان ما قلته حقاً فقد تخصلت وتخلصنا وإن كان ما قلناه حقاً فقد تخلصنا وهلكت‏:‏ وما قال هذا عن شك منه في الآخرة ولكن كلم الملحد على قدر عقله وبين له أنه وإن لم يكن متيقناً فهو مغرور‏.‏

وأما الأصل الثاني من كلامه‏:‏ وهو أن الآخرة شك فهو أيضاً خطأ بل ذلك يقين عند المؤمنين وليقينه مدركان‏.‏

أحدهما‏:‏ الإيمان والتصديق تقليداً للأنبياء والعلماء وذلك أيضاً يزيل الغرور وهو مدرك يقين العوام وأكثر الخواص ومثالهم مثال مريض لا يعرف دواء علته وقد اتفق الأطباء وأهل الصناعة من عند آخرهم على أن دواءه النبت الفلاني فإنه يطمئن نفس المريض إلى تصديقهم ولا يطالبهم بتصحيح ذلك البراهين الطبية بل يثق بقولهم ويعلم به ولو بقي سوادي أو معتوه يكذبهم في ذلك وهو يعلم بالتواتر وقرائن الأحوال أنهم أكثر منة عدداً وأغزر منه فضلاً وأعلم منه بالطب بل لا علم له بالطب فيعلم كذبه بقولهم ولا يعتقد كذبهم بقوله ولا يغتر في علمهم بسببه ولو اعتمد قوله وترك قول الأطباء كان معتوهاً مغروراً فكذلك من نظر إلى المقرين بالآخرة والمخبرين عنها والقائلين بأن التقوى هو الدواء النافع في الوصول إلى سعادتها وجدهم خير خلق الله وأعلاهم رتبة في البصيرة والمعرفة والعقل وهم الأنبياء والأولياء والحكماء والعلماء وابتعهم عليه الخلق على أصنافهم وشذ منهم آحاد من البطالين غلبت عليهم الشهوة ومالت نفوسهم إلى التمتع فعظم عليهم ترك الشهوات وعظم عليهم الاعتراف بأنهم من أهل النار فجحدوا الآخرة وكذبوا الأنبياء فكما أن قول الصبي وقول السوادي لا يزيل طمأنينة القلب إلى ما اتفق عليه الأطباء فكذلك قول هذا الغني الذي استرقته الشهوات لا يشكك في صحة أقوالها الأنبياء والأولياء والعلماء‏.‏

وهذا القدر من الإيمان كاف لجمله الخلق وهو يقين جازم يستحق على العمل لا محالة والغرور يزول به‏.‏

وأما المدرك الثاني لمعرفة الآخرة فهو الوحي للأنبياء والإلهام للأولياء ولا تظنن أن معرفة النبي عليه السلام لأمر الآخرة ولأمور الدين تقليد لجبريل عليه السلام بالسماع منه كما أن معرفتك تقليد للنبي صلى الله عليه وسلم حتى تكون معرفتك مثل معرفته وإنما يختلف المقلد فقط وهيهات‏!‏ فإن التقليد ليس بمعرفة بل هو اعتقاد صحيح والأنبياء عارفون ومعنى معرفتهم أنه كشف لهم حقيقة الأشياء كما هي عليها فشاهدوها بالبصيرة الباطنة كما تشاهد أنت المحسوسات بالبصر الظاهر فيخبرون عن مشاهدة لا عن سماع وتقليد‏.‏

وذلك بأن يكشف لهم عن حقيقة الروح وأنه من أمر الله تعالى وليس المراد بكونه من أمر الله الأمر الذي يقابل النهي لأن ذلك الأمر كلام والروح ليس بكلام وليس المراد بالأمر الشأن حتى يكون المراد به أنه من خلق الله فقط لأن ذلك عام في جميع المخلوقات‏.‏

بل العالم عالمان‏:‏ عالم الأمر وعالم الخلق ولله الخلق والأمر فالأجسام ذوات الكمية والمقادير من عالم الأمر الخلق إذا الخلق عبارة عن التقدير في وضع اللسان وكل موجود منزه عن الكمية والمقدار فإنه من عالم الأمر وشرح ذلك سر الروح ولا رخصة في ذكره لاستضرار أكثر الخلق بسماعه كسر القدر الذي منع من إفشائه‏.‏

فمن عرف سر الروح فقد عرف نفسه وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه وإذا عرف نفسه وربه عرف أنه أمر رباني بطبعه وفطرته وأنه في العالم الجسماني غريب وأن هبوطه إليه لم يكن بمقتضى طبعه في ذاته بل بأمر عارض غريب من ذاته وذلك العارض الغريب ورد على آدم صلى الله عليه وسلم وعبر عنه بالمعصية وهي التي حطته عن الجنة التي هي أليق به بمقتضى ذاته فإنها في جوار الرب تعالى وأنه أمر رباني وحنينه إلى جواب الرب تعالى له طبعي ذاتي إلا أن يصرفه عن مقتضى طبعه عوارض العالم الغريب من ذاته فينسى عند ذلك نفسه وربه‏.‏

ومهما فعل ذلك فقد ظلم نفسه إذ قيل له ‏"‏ ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ‏"‏ أي الخارجون عن مقتضى طبعهم ومظنة استحقاقهم‏.‏

يقال‏:‏ فسقت الرطبة عن كمامها إذا خرجت عن معدنها الفطري‏.‏

وهذه إشارة إلى أسرار يهتز لاستنشاق روائحها العارفون وتشمئز من سماع ألفاظها القاصرون فإنهم تضر بهم كما تضر رياح الورد بالجعل وتبهر أعينهم الضعيفة كما تبهر الشمس أبصار الخفافيش‏.‏

وانفتاح هذا الباب من سر القلب إلى عالم الملكوت يسمى معرفة وولاية ويسمى صاحبه ولياً وعارفاً وهي مبادئ مقامات الأنبياء‏.‏

وآخر مقامات الأولياء أول مقامات الأنبياء‏.‏

ولنرجع إلى الغرض المطلوب فالمقصود أن غرور الشيطان بأن الآخرة شك يدفع إما بيقين تقليدي وأما ببصيرة ومشاهدة من جهة الباطن والمؤمنين بألسنتهم وبعقائدهم إذا ضيعوا أوامر الله تعالى وهجروا الأعمال الصالحة ولابسوا الشهوات والمعاصي فهم مشاركون للكفار في هذا الغرور من النار ولو بعد حين ولكنهم أيضاً من المغرورين فإنهم اعترفوا بأن الآخرة خير من الدنيا ولكنهم مالوا إلى الدنيا وآثروها ومجرد الإيمان لا يكفي للفوز قال تعالى ‏"‏ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ إن رحمت الله قريب من المحسنين ‏"‏ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه وقال تعالى ‏"‏ والعصر إن الإنسان لفي

خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ‏"‏ فوعد المغفرة في جميع كتاب الله تعالى منوط بالإيمان والعمل الصالح جميعاً لا بالإيمان وحده فهؤلاء أيضاً مغرورون أعني المطمئنين إلى الدنيا الفرحين بها المترفين بنعيمها المحبين لها‏.‏

الكارهين للموت خيفة فوات لذات الدنيا دون الكارهين له خيفة لما بعده فهذا مثال الغرور بالدنيا من الكفار والمؤمنين جميعاً‏.‏

ولنذكر للغرور بالله مثالين من غرور الكافرين والعاصين‏.‏

فأما غرور الكفار بالله‏:‏ فمثاله قول بعضهم في أنفسهم وبألسنتهم‏:‏ إنه لو كان لله من معاد فنحن أحق به من غيرنا ونحن أوفر حظاً فيه وأسعد حالاً كما أخبر الله تعالى عنه من قول الرجلين المتجاورين إذ قال ‏"‏ وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً ‏"‏ وجملة أمرهما كما نقل في التفسير‏:‏ أن الكافر منهما بنى قصراً بألف دينار واشترى بستاناً بألف دينار وخدماً بألف دينار وتزوج امرأة على ألف دينار وفي ذلك كله يعظه المؤمن ويقول‏:‏ اشتريت قصراً يفنى ويخرب ألا اشتريت قصراً في الجنة لا يفنى‏!‏ واشتريت بستاناً يخرب ويفنى ألا اشتريت بستاناً في الجنة لا يفنى وخدماً لا يفنون ولا يموتون وزوجة من الحور العين لا تموت‏!‏ وفي كل ذلك يرد عليه الكافر ويقول‏:‏ ما هناك شيء وما قيل من ذلك فهو أكاذيب‏!‏ وإن كان فليكونن لي في الجنة خير من هذا‏.‏

وكذلك وصف الله تعالى قول العاص ابن وائل إذ يقول ‏"‏ لأوتين مالاً وولداً ‏"‏ فقال الله تعالى رداً عليه ‏"‏ أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهداً كلا ‏"‏ وروي عن خباب بن الأرت أنه قال‏:‏ كان لي على العاص بن وائل دين فجئت أتقاضاه فلم يقض لي فقلت‏:‏ إني آخذه في الآخرة فقال لي‏:‏ إذا صرت إلى الآخرة فإن لي هناك مالاً وولداً أقضيك منه‏.‏

فأنزل الله تعالى قوله ‏"‏ أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً وقال الله تعالى ‏"‏ ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عند للحسنى ‏"‏ وهذا كله من الغرور بالله‏.‏

وسببه قياس من أقيسة إبليس نعوذ بالله منه وذلك أنهم ينظرون مرة إلى نعم الله عليهم في الدنيا فيقيسون عليهم نعمة الآخرة وينظرون مرة إلى تأخير العذاب عنهم فيقيسون عليه عذاب الآخرة كما قال تعالى ‏"‏ ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول ‏"‏ فقال تعالى جواباً لقولهم ‏"‏ حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير ‏"‏ ومرة ينظرون إلى المؤمنين وهم فقراء شعث غبر فيزدرون بهم ويستحقرونهم فيقولون ‏"‏ أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ‏"‏ ويقولون ‏"‏ لو كان خيراً ما سبقونا

إليه ‏"‏ وترتيب القياس الذي نظمه في قلوبهم أنهم يقولون‏:‏ قد أحسن الله إلينا بنعيم الدنيا وكل محسن فهو محب وكل محب فإنه يحسن أيضاً في المستقبل كما قال الشاعر‏:‏ لقد أحسن الله فيما مضى كذلك يحسن فيما بقي

وإنما يقيس المستقبل على الماضي بواسطة الكرامة والحب إذ يقول‏:‏ لولا أني كريم عند الله ومحبوب لما أحسن إلي‏.‏

والتلبيس تحت ظنه أن كل محسن محب لا بل تحت ظنه أن إنعامه عليه في الدنيا إحسان فقد اغتر بالله إذ ظن أنه كريم عنده بدليل لا يدل على الكرامة بل عند ذوي البصائر يدل على الهوان‏.‏

ومثاله‏:‏ إن يكون للرجل عبدان صغيران يبغض أحدهما ويحب الآخر فالذي يحبه يمنعه من اللعب ويلزمه المكتب ويحبسه فيه ليعلمه الأدب ويمنعه من الفواكه وملاذ الأطعمة التي تضره ويسقيه الأدوية التي تنفعه‏.‏

والذي يبغضه يهمله ليعيش كيف يريد فيلعب ولا يدخل المكتب ويأكل ما يشتهي فيظن هذا العبد المهمل أنه عند سيده محبوب كريم لأنه مكنه من شهواته ولذاته وساعده على جميع أغراضه فلا يمنعه ولم يحجر عليه وذلك محض الغرور وهكذا نعيم الدنيا ولذتها فإنها مهلكات ومبعدات من الله ‏"‏ فإن الله يحمي عبده من الدنيا وهو يحبه كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام والشراب وهو يحبه هكذا ورد في الخبر وكان أرباب البصائر إذا أقبلت عليهم الدنيا حزنوا وقالوا‏:‏ ذنب عجلت عقوبته ورأوا ذلك علامة المقت والإهمال وإذا أقبل عليهم الفقر قالوا‏:‏ مرحباً بشعار الصالحين‏.‏

والمغرور إذا أقبلت عليه الدنيا ظن أنها كرامة من الله وإذا صرفت عنه ظن أنها هوان كما أخبر الله تعالى عنه إذ قال ‏"‏ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ‏"‏ فأجاب الله عن ذلك ‏"‏ كلا ‏"‏ أي ليس كما قال إنما هو ابتلاء نعوذ بالله من شر البلاء ونسأل الله التثبيت فبين أن ذلك غرور‏.‏

قال الحسن كذبهما جميعاً بقوله ‏"‏ كلا ‏"‏ يقول ليس هذا بإكرامي ولا هذا بهواني ولكن الكريم من أكرمته بطاعتي غنياً كان أو فقيراً والمهان من أهنته بمعصيتي غنياً كان أو فقيراً‏.‏

وهذا الغرور علاجه معرفة دلائل الكرامة والهوان إما بالبصيرة أو بالتقليد أما البصيرة فبأن يعرف وجه كون الالتفات إلى شهوات الدنيا مبعد عن الله ووجه كون التباعد عنها مقرباً إلى الله ويدرك ذلك بالإلهام في منازل العارفين والأولياء وشرحه من جملة علوم المكاشفة ولا يليق بعلم المعاملة ‏"‏ وأما معرفته بطريق التقليد والتصديق ‏"‏ فهو أن يؤمن بكتاب الله تعالى ويصدق رسوله وقد قال تعالى ‏"‏ أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ‏"‏ وفي تفسير قوله تعالى ‏"‏ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ‏"‏ أنهم كلما أحدثوا ذنباً أحدثنا لهم نعمة ليزيد غرورهم وقال تعالى ‏"‏ إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ‏"‏ إلى غير ذلك مما ورد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله فمن آمن به تخلص من هذا الغرور فإن منشأ هذا الغرور والجهل بالله وبصفاته فإن من عرفه لا يأمن مكره ولا يغتر بأمثال هذه الخيالات الفاسدة وينظر إلى فرعون وهامان وقارون وإلى ملوك الأرض وما جرى لهم كيف أحسن الله إليهم ابتداء ثم دمرهم تدميرا‏!‏ فقال تعالى ‏"‏ هل تحس منهم من أحد ‏"‏ الآية‏.‏

وقد حذر الله تعالى من مكره واستدراجه فقال ‏"‏ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون ‏"‏ وقال عز وجل ‏"‏ ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً فمهل الكافرين أمهلهم رويداً ‏"‏ فكما لا يجوز للعبد المهمل أن يستدل بإهمال السيد إياه وتمكينه من النعم على حب السيد بل ينبغي أن يحذر أن يكون ذلك مكراً منه وكيداً مع أن السيد لم يحذره مكر نفسه فبأن يجب ذلك في حق الله تعالى مع تحذيره استدراجه أولى فإذن من أمن مكر الله فهو مغتر ومنشأ هذا الغرور أنه استدل بنعم الدنيا على أنه كريم عند ذلك المنعم واحتمل أن يكون ذلك دليل الهوان ولكن ذلك الاحتمال لا يوافق الهوى فالشيطان بواسطة الهوى يميل بالقلب إلى ما يرافقه وهو التصديق بدلالته على الكرامة وهذا هو حد الغرور‏.‏

المثال الثاني غرور العصاة من المؤمنين بقولهم‏:‏ إن الله كريم وإنا نرجو عفوه واتكالهم على ذلك وإهمالهم الأعمال وتحسين ذلك بتسمية تمنهم واغترارهم رجاء وظنهم أن الرجاء مقام محمود في الدين وأن نعمة الله واسعة ورحمته شاملة وكرمه عميم وأين معاصي العباد في بحار رحمته وإنا موحدون ومؤمنون فنرجوه بوسيلة الإيمان وربما كان مستند رجائهم التمسك بصلاح الآباء وعلو رتبتهم كاغترار العلوية بنسبهم ومخالفة سيرة آبائهم في الخوف والتقوى والورع وظنهم أنهم أكرم على من آبائهم إذ آباؤهم مع غاية الورع والتقوى كانوا خائفين وهم مع غاية الفسق والفجور آمنون وذلك نهاية الاغترار بالله تعالى‏.‏

فقياس الشيطان للعلوية‏.‏

أن من أحب إنساناً أحب أولاده وأن الله قد أحب آباءكم فيحبكم فلا تحتاجون إلى الطاعة وينسى المغرور أن نوحاً عليه السلام أراد أن يستصحب ولده معه في السفينة فلم يرد فكان من المغرقين ‏"‏ فقال رب إن ابني من أهلي ‏"‏ فقال تعالى ‏"‏ يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح ‏"‏ وإن إبراهيم عليه السلام استغفر لأبيه فلم ينفعه‏.‏

وأن نبيناً صلى الله عليه وسلم وعلى كل عبد مصطفى استأذن ربه في أن يزور قبر أمه ويستغفر لها فأذن له في الزيارة ولم يؤذن له في الاستغفار فجلس يبكي على قبر أمه لرقته لها بسبب القرابة حتى أبكى من حوله فهذا أيضاً اغترار بالله تعالى وهذا لأن الله تعالى يحب المطيع ويبغض العاصي فكما أنه لا يبغض الأب المطيع ببغضه للولد العاصي فكذلك لا يحب الولد العاصي بحبه للأب المطيع ولو كان الحب يسري من الأب إلى الولد لأوشك أن يسري البغض أيضاً بل الحق أن لا تزر وازرة وزر أخرى‏.‏

ومن ظن أنه ينجو بتقوى أبيه كمن ظن أنه يشبع بأكل أبيه ويروى بشرب أبيه ويصير عالماً بتعلم أبيه ويصل إلى الكعبة ويراها بمشي أبيه‏.‏

فالتقوى فرض عين فلا يجزه فيه والد عن ولده شيئاً وكذا العكس وعند الله جزاء التقوى ‏"‏ يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه ‏"‏ إلا على سبيل الشفاعة لمن لم يشتد غضب الله عليه فيأذن في الشفاعة له - كما سبق في كتاب الكبر والعجب‏.‏

فإن قلت‏:‏ فأين الغلط في قول العصاة والفجار إن الله كريم وإنا نرجو رحمته ومغفرته وقد قال أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيراً فما هذا إلا كلام صحيح مقبول الظاهر في القلوب فاعلم أن الشيطان لا يغوي الإنسان إلا بكلام مقبول الظاهر مردود الباطن ولولا حسن ظاهره لما انخدعت به القلوب ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كشف عن ذلك فقال ‏"‏ الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله وهذا هو التمني على الله تعالى غير الشيطان اسمه فسماه‏:‏ رجاء حتى خدع به الجهال‏.‏

وقد شرح الله الرجاء فقال ‏"‏ إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله ‏"‏ يعني أن الرجاء بهم أليق وهذا لأنه ذكر أن ثواب الآخرة أجر وجزاء على الأعمال قال الله تعالى ‏"‏ جزاء بما كانوا يعملون ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ‏"‏ أفترى أن من استؤجر على إصلاح أوان وشرط له أجرة عليها وكان الشارط كريماً يفي بالوعد مهما وعد ولا يخلف بل يزيد فجاء الأجير وكسر الأواني وأفسد جميعها ثم جلس ينتظر الأجر ويزعم أن المستأجر كريم أفيراه العقلاء في انتظاره متمنياً مغروراً أو راجياً وهذا للجهل بالفرق بين الرجاء والغرة‏.‏

قيل للحسن‏:‏ قوم يقولون نرجو الله ويضيعون العمل فقال‏:‏ هيهات هيهات‏!‏ تلك أمانيهم يترجحون فيها من رجا شيئاً طلبه ومن خاف شيئاً هرب منه‏.‏

وقال مسلم بن يسار‏:‏ لقد سجدت البارحة حتى سقطت ثنيتاي‏!‏ فقال له رجل‏:‏ إنا لنرجو الله‏!‏ فقال مسلم‏:‏ هيهات هيهات من رجا شيئاً طلبه ومن خاف شيئاً هرب منه‏.‏

وكما أن الذي يرجوا في الدنيا ولداً وهو بعد لم ينكح أو نكح ولم يجامع أو جامع ولم ينزل‏!‏ فهو معتوه فكذلك من رجا رحمة الله وهو لم يؤمن أو آمن لم يعمل صالحاً أو عمل ولم يترك المعاصي فهو مغرور‏.‏

فكما أنه إذا نكح ووطئ وأنزل بقي متردداً في الولد يخاف ويرجو فضل الله في خلق الولد ودفع الآفات عن الرحم وعن الأم إلى أن يتم فهو كيس فكذلك إذا آمن وعمل الصالحات وترك السيئات وبقي متردداً بين الخوف والرجاء يخاف أن لا يقبل منه وأن لا يدوم عليه وأن يختم له بالسوء ويرجوا من الله تعالى أن يثبته بالقول الثابت ويحفظ دينه من صواعق سكرات الموت حتى يموت على التوحيد ويحرس قلبه عن الميل إلى الشهوات بقية عمره حتى لا يميل إلى المعاصي فهو كيس ومن عدا هؤلاء فهم المغرورون بالله ‏"‏ وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيل - ولتعلمن نبأه بعد حين ‏"‏ وعند ذلك يقولون كما أخبر الله عنهم ‏"‏ ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون ‏"‏ أي علمنا أنه كما لا يولد إلا بوقاع ونكاح ولا ينبت زرع إلا بحراثة وبث بذر فكذلك لا يحصل في الآخرة ثواب وأجر إلا بعمل صالح فارجعنا نعمل صالحاً فقد علمنا الآن صدقك في قولك ‏"‏ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى - كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير ‏"‏ أي ألم نسمعكم سنة الله في عباده وأنه ‏"‏ توفى كل نفس ما كسبت ‏"‏ وأن ‏"‏ كل نفس بما كسبت رهينة ‏"‏ فما الذي غركم بالله بعد أن سمعتم وعقلتم ‏"‏ قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير ‏"‏‏.‏

فإن قلت‏:‏ فأين مظنة الرجاء وموضعه المحمود فاعلم أنه محمود في موضعين‏:‏ أحدهما‏:‏ في حق العاصي المنهمك إذا خطرت له التوبة فقال له الشيطان‏:‏ وأنى تقبل توبتك فيقنطه من رحمة الله تعالى ‏"‏ فيجب عند هذا أن يقمع القنوط بالرجاء ويتذكر ‏"‏ إن الله يغفر الذنوب جميعاً ‏"‏ وأن الله كريم يقبل التوبة عن عباده وأن التوبة طاعة تكفر الذنوب قال الله تعالى ‏"‏ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم ‏"‏ أمرهم بالإنابة وقال تعالى ‏"‏ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ‏"‏ فإذا توقع المغفرة مع التوبة فهو راج وإن توقع المغفرة مع الإصرار فهو مغرور كما أن من ضاق عليه وقت الجمعة وهو في السوق فخطر له أن يسعى إلى الجمعة فقال له الشيطان‏:‏ إنك لا تدرك الجمعة فأقم على موضعك فكذب الشيطان ومر يعدو وهو يرجو أن يدرك الجمعة فهو راج وإن استمر على التجارة وأخذ يرجو تأخير الإمام للصلاة لأجله إلى وسط الوقت أو لأجل غيره أو لسبب من الأسباب التي لا يعرفها فهو مغرور‏.‏

الثاني‏:‏ أن تفتر نفسه عن فضائل الأعمال ويقتصر على الفرائض فيرجى نفسه نعيم الله تعالى وما وعد به الصالحين حتى ينبعث من الرجاء نشاط العبادة فيقبل على الفضائل ويتذكر قوله تعالى ‏"‏ قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ‏"‏ فالرجاء الأول‏:‏ يقمع القنوط المانع من التوبة‏.‏

الرجاء الثاني‏:‏ يقمع الفتور المانع من النشاط والتشمر فكل توقع حث على توبة أو على تشمر في العبادة فهو رجاء وكل رجاء أوجب فتوراً في العبادة وركوناً إلى البطالة فهو غرة كما إذا خطر له أن يترك الذنب ويشتغل بالعمل فيقول له الشيطان‏:‏ مالك ولإيذاء نفسك وتعذيبها ولك رب كريم غفور رحيم فيفتر بذلك عن التوبة والعبادة فهو غرة وعند هذا واجب على العبد أن يستعمل الخوف فيخوف نفسه بغضب الله وعظيم عقابه ويقول‏:‏ إنه مع أنه غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب وإنه مع أنه كريم خلد الكفار في النار أبد الآباد مع أنه لم يضره كفرهم بل سلط العذاب والمحن والأمراض والعلل والفقر والجوع على جملة من عباده في الدنيا وهو قادر على إزالتها فمن هذه سنته في عباده وقد خوفني عقابه فكيف لا أخافه وكيف أغتر به

فالخوف والرجاء قائدان وسائقان يبعثان الناس على العمل فما لا يبعث على العمل فهو تمن وغرور‏.‏

ورجاء كافة الخلق هو سبب فتورهم وسبب إقبالهم على الدنيا وسبب إعراضهم عن الله تعالى وإهمالهم السعي للآخرة فذلك غرور فقد أخبر صلى الله عليه وسلم وذكر أن الغرور سيغلب على قلوب آخر هذه الأمة وقد كان ما وعد به صلى الله عليه وسلم فقد كان الناس في الأعصار الأول يواظبون على العبادات ويؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون يخافون على أنفسهم وهم طول الليل والنهار في طاعة الله يبالغون في التقوى والحذر من الشبهات والشهوات ويبكون على أنفسهم في الخلوات‏.‏

وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين مطمئنين غير خائفين مع إكبابهم على المعاصي وانهماكهم في الدنيا وإعراضهم عن الله تعالى زاعمين أنهم واثقون بكرم الله تعالى وفضله راجون لعفوه ومغفرته كأنهم يزعمون أنهم عرفوا من فضله وكرمه ما لم يعرفه الأنبياء والصحابة والسلف الصالحون‏.‏

فإن كان هذا الأمر يدرك بالمنى وينال بالهوينى فعلام إذن كان بكاء أولئك وخوفهم وحزنهم وقد ذكرنا تحقيق هذه الأمور في كتاب الخوف والرجاء وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه معقل بن يسار ‏"‏ يأتى على الناس زمان يخلق فيه القرآن في قلوب الرجال كما تخلق الثياب على الأبدان أمرهم كله يكون طمعاً لا خوف معه إن أحسن أحدهم قال‏:‏ يتقبل مني وإن أساء قال‏:‏ يغفر لي فأخبر أنهم يضعون الطمع موضع الخوف لجهلهم بتخويفات القرآن وما فيه‏.‏

وبمثله أخبر عن النصارى إذ قال تعالى ‏"‏ فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا ‏"‏ ومعناه أنهم ‏"‏ ورثوا الكتاب ‏"‏ أي هم علماء ‏"‏ ويأخذون عرض هذا الأدنى ‏"‏ أي شهواتهم من الدنيا حراماً كان أو حلالاً‏.‏

وقد قال تعالى ‏"‏ ولمن خاف مقام ربه جنتان - ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعبد ‏"‏ والقرآن من أوله إلى آخره تحذير وتخويف لا يتفكر فيه متفكر إلا ويطول حزنه ويعظم خوفه إن كان مؤمناً بما فيه‏.‏

وترى الناس يهذونه هذا يخرجون الحروف من مخارجها ويتناظرون على خفضها ورفعها ونصبها وكأنهم يقرؤون شعراً من أشعار العرب لا يهمهم الالتفات إلى معانيه والعمل بما فيه وهل في العالم غرور يزيد على هذا فهذه أمثلة الغرور بالله وبيان الفرق وبين الرجاء والغرور ويقرب منه غرور طوائف لهم طاعات ومعاص إلا أن معاصيهم أكثر وهم يتوقعون المغفرة ويظنون أنهم تترجح كفة حسناتهم مع أن ما في كفة السيئات أكثر وهذا غاية الجهل فترى الواحد يتصدق بدراهم معدودة من الحلال والحرام ويكون ما يتناول من أموال المسلمين والشبهات أضعافه ولعل ما تصدق به من أموال المسلمين‏!‏ وهو يتكل عليه ويظن أن أكل ألف درهم حرام يقاومه التصدق بعشرة من الحرام أو الحلال وما هو إلا كمن وضع عشرة دراهم في كفة ميزان وفي الكفة الأخرى ألفاً وأراد أن يرفع الكفة الثقيلة بالكفة الخفيفة وذلك غاية جهله‏.‏

نعم ومنهم من يظن أن طاعاته أكثر من معاصيه لأنه لا يحاسب نفسه ولا يتفقد معاصيه وإذا عمل طاعة حفظها واعتد بها كالذي يستغفر الله بلسانه أو يسبح الله في اليوم مائة مرة ثم يغتاب المسلمين ويمزق أعراضهم ويتكلم بما لا يرضاه الله طول النهار من غير حصر وعدد ويكون نظره إلى عدد سبحته أنه استغفر الله مائة مرة وغفل عن هذيانه طول نهاره الذي لو كتبه لكان مثل تسبيحه مائة مرة أو ألف مرة وقد كتبه الكرام الكاتبون وقد أوعده الله بالعقاب على كل كلمة فقال ‏"‏ وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ‏"‏ فهذا أبداً يتأمل في فضائل التسبيحات والتهليلات ولا يلتفت إلى ما ورد من عقوبة المغتابين والكذابين والنمامين والمنافقين يظهرون من الكلام ما لا يضمرونه إلى غير ذلك من آفات اللسان‏.‏

وذلك محض الغرور‏.‏

ولعمري لو كان الكرام الكاتبون يطلبون منه أجرة النسخ لما يتكبونه من هذيانه الذي زاد على تسبيحه لكان عند ذلك يكف لسانه حتى عن جملة منن مهماته وما نطق به في فتراته كان يعده ويحسبه ويوازنه بتسبيحاته حتى لا يفضل عليه أجرة نسخه‏!‏ فيا عجباً لمن يحاسب نفسه ويحتاط خوفاً على قيراط يفوته في الأجرة على النسخ ولا يحتاط خوفاً من فوت الفردوس الأعلى ونعيمه‏!‏ ما هذه إلا مصيبة عظيمة لمن تفكر فيها‏!‏ لقد دفعنا إلى أمر إن شككنا فيه كنا من الكفرة الجاحدين وإن صدقنا به كنا من الحمقى المغرورين‏!‏ فما هذه أعمال من يصدق بما جاء به القرآن وإنا نبرأ إلى الله أن نكون من أهل الكفران فسبحان من صدنا عن التنبه واليقين مع هذا البيان وما أجدر من يقدر على تسليط مثل هذه الغفلة والغرور وعلى القلوب أن يخشى ويتقي ولا يغتر به اتكالاً على أباطيل المنى وتعاليل الشيطان والهوى والله أعلم‏.‏